هدى توفيق
أكثر مرحًا
يحب الرجل المرأة ، لأنها تملك من التعاطف معه ، والإشفاق عليه ، ما يدفعها لقول أحبك ، في اللحظة التي يقل فيها حبها له ، وتقل ذلك من أجل ألا تشعره بالأمر وكي لا يلاحظ ذلك ، ببساطة يحب الرجل المرأة لأنها المرأة .
أحيانا كثيرة ، نتخيل أنّ مصيرنا واحد مهما حدث ومهما كانت الظروف ، استحالة لكن الأقدار تأتي ، وتواتينا بالضربة القاضية وتصبح طاقة الدموع داخلي سكين يخترق قلبي ، وينزف ببطء كالموت البطئ يا له من وجع ، تئن له نبضات قلبي بين حين وآخر، همٌ لا يطاق ، ولا أستطيع تحمله.
ذهبتْ بسرها الدفين إلي شارع البحر الكبير الواسع الذي تطل مبانيه ، علي البحر وإنْ كان ليس بحرًا حقيقيًا ، فهو امتداد مياه نهر النيل حيث في مدينتها يوجد أكبر اتساع له ، والناس اعتادوا أنْ يُطلقوا عليه البحر.. بل وسُمى الشارع المشهور بشارع البحر ، به الكثير من المراكب الصغيرة ، وسفينة سياحية فخمة ، وحديقة ومخارج ومداخل للعديد من النوادي التي تطل علي البحر.. كما أطلق الجميع عليه هذا شارع البحر.
وقفتْ أمام البحر تتأمل حياتها كاملة ، وقصة العشق والفراق لحبيب وزوج وصديق الجامعة الذي أحبته وعمرها لا يتجاوز العشرين عامًا.. وتدفقت مع مياه البحر الرقراقة ، كل الذكريات التي هي أصبحتْ كل ما تبقي لها بعد حب وزواج وعشق دام لأكثر من خمسة عشر عامًا وهي الآن امرأة في منتصف الثلاثينيات ، تبحث عن مرفأ ، وملاذ للوحدة التي أبرمت معها عقدًا دائمًا ، وقد أصبحتْ أسيرة ذكريات العشق ، والفراق الذي كان ، بعد أنْ حـُـرمتْ من الأمومة رغم كل المحاولات الطبيةْ تـُنجب لتكلل قصة حبها العظيمة ، وبقاءها بوجود ثمرة تسعد بها زوجها وحبيبها الوحيد ، وفي لحظة جنون قرّرتْ أنْ تتركه يشق طريقه مع امرأة أخري تنجب له الطفل الذي يتمناه هو وعائلته ، بعد أنْ تأكدت أنّ العيب في عدم الإنجاب هي السبب فيه ، ولا أمل في العلاج لأنْ تـُنجب .
تنهدتْ بحسرة علي قرار أخذته بالانفصال وفراقه ، أغلي من أحبتْ ، وعاشت من أجله ، ولم يتبق غير جلسة الذكريات مع بحرها الواسع العميق الذي يلتهم كل الأحباب ، والأحزان ، والسماء فوقها تبدو وكأنها حرس زجاجي كبير تخفى داخله كل حزن العالم.. ووجع يفصلها عن أى معنى للحياة ، ثم جالت بنظرة غارقة حتى لمحتْ ما يشاركها معنى الرحيل الذى كتب عليها.. رأتْ السفن وكأنها نوارس الشواطئ تناديها.. إنه الموت البطئ.. إنه الرحيل الذى لا عودة منه ، وبخطوات لا ارادية جلست مباشرة في نفس المكان ، الذي كانا لا يفارقاه معا ، حتى بعد الزواج لسنوات طويلة ، وقد كان أجمل مكان بالنسبة لها ، حتى وهي الآن بمفردها ، فمازالت روحه تطفو فيه كجنيات البحر تففز من البحر وتجلس بجانبها ، وهي تراه لمسافة عدة أميال من حوله ، يتحدث وينادي حنان.. حنان.. حنان ، في المرة الثالثة أيقنتْ أنّ هذا الصوت حقيقي ، ولا يأتي من خيالها المتأجج بالشوق واللهفة إليه. والتفتتْ لمصدر الصوت الدافئ الحنون ، الذي ينطق بطريقة تخصه هو فقط.. حبيبها الأبدي.. وهتفتْ من هول المفاجأة السعيدة :
ـ حبيبي .. حبيبي .. معقوله ؟!
يرنو إليها ، ويكاد أنْ يحتضنها لولا طفل لا يتجاوز الثلاث سنوات يحمله علي ذراعه ، فتتراجع ، وتكتفي بالسلام بالأيدي ، وسارا في حديقة النيل ، يؤكدان أنّ الحب ، والعشق لا ينتهي مهما كان ظلم القدر وقسوة الحياة.. وعاد كسابق عهدهما، ولو للحظات من الزمن ، الذي عصف بعشقها تحت وطأة الظروف إلي حبيبن مفترقان دون رجاء أو أمل ، يهمسان لبحرهما.. رفيقهما الثالث المخلص في رحلة الحب ، ثم العشق ثم الفراق ، ثم اللعب مع يوسف ابنه بالكرة ، ومياه البحر، ركلات يوسف الهوجاء تلتقطها فيصرخان ، ويستعيدوها بمرح وسعادة ، وقد تركا أحلام المياه العذبة تلهو بهم وتملأهم بهجة وفرحة لا تسع البحر أو السماء أو السفن ، وأثناء اافتراق كلا منهما سألته بشغف وحزن ليكتسح عينيها النجلاوين قائلة بحزن :
- هل تغير ت يا إبراهيم..
أجاب بعينه التي أيضًا الحزن يكتسحهما قائلا بحزن :
- كنت فقط أكثر مرحًا حبيبتى .
***